د. أشرف غراب يكتب: ضيوف مصر.. أم الدنيا لكل الدنيا

د. أشرف غراب
د. أشرف غراب

سوريون، يمنيون، ليبيون، أوكرانيون، سودانيون...، وغيرهم من الجنسيات العربية والأجنبية فوق الأراضى المصرية، بتعدادٍ بلغ نحو تسعة ملايين "ضيف"، بتعبير المصريين وقائدهم، و"لاجئ"، حسب الوصف المُتبع عالميًا وفى البلدان الأخرى المُتواجدين على أراضيها، وذلك طبقًا لما أعلنته المنظمة الدولية للهجرة بآخر مسح إحصائى أجرته، العام الماضى، جميعهم يأكلون ويشروب ويُعالجون ويقطنون، ويتمتعون بجميع سُبل الدعم والعيش المُقدمة للمصريين من دولتهم دون أى مقابلٍ مادىٍّ من أى جهة كانت، أو مطالبة بها فى يومٍ من الأيام، رغم ما تُعانيه دول الكرة الأرضية من تبعات الأزمات الاقتصادية والحروب والصراعات، خاصةً اقتصادنا الذى يتحمَّل فوق طاقته حاليًا.

أم الدنيا لكل الدنيا، لم تكن يومًا مُوصدة الأبواب فى وجه أحدٍ، زائرًا كان أو سائحًا أو فارًا من نيران النزاعات والبطش، عدا الذى تطلخت يداه بدماء الأبرياء، وأيضًا من خرج على الحكومات الديمقراطية التى جاءت بها الصناديق، فدائمًا تفتح ذراعيها دون تمييزٍ أو تفرقة، وتُعدهم ضيوفًا، وتأبى كل إباءٍ وصفهم باللاجئين، وهو التعبير الذى أطلقته وشددت على احترامه القيادة السياسية المصرية فى خطاباتها كثيرًا، وأكدت على حُسن معاملتهم واستقبالهم وإغاثتهم، إلى أن تستقر أحوال بلادهم ويعودون مُعززين مُكرمين، ومنذ ذلك الحين لم يحدث أن خرج من شواطئ الدولة المصرية أو منافذها إلى أوروبا مهاجرٌ غير شرعى ولا لاجئ واحد يُهدد أراضيها باعتراف قادتها ورجالات صُنع القرار فيها.
 
مؤخرًا، توافد الإخوة السودانيون بغزارة إلى مصر، بعد أحداث الصراع الأخيرة التى حدثت بين قوات الدفاع السريع بقيادة "حميدتى"، ورئيس مجلس السيادة السودانى  الفريق أول "عبدالفتاح البرهان"، واحتلوا مرتبة الضيوف الأولى على أرض القاهرة بنحو 4 ملايين شخص ويزيد، وكانت المفوضية السامية لشئون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، أكدت أن عدد النازحين واللاجئين فى العالم قد ارتفع، العام الماضى، إلى 103 ملايين شخص، مقارنة بـ89٫3 مليون شخص فى 2021، وهو ما يعنى أن مصر وحدها تتحمل عبء استضافة نحو 9٪ من إجمالى عدد اللاجئين فى العالم، وهو ما يعنى أيضًا أننا نُسهم فى حل الكثير من معضلات عالمية عجزت عن إيجاد حلول لها كبرى الاقتصادات الدولية، دون أن نتلقى دعمًا أو مساندةً أو حتى إشادة تعترف بالفضل لصاحبه.

باريس الحرية والعراقة قالت فى فبراير من العام ٢٠٢٢ إن تكلفة استقبال نحو 100 ألف لاجئ أوكرانى فى فرنسا بلغت خلال العام الماضى نحو 500 مليون يورو، أى أن تكلفة المليون لاجئ تبلغ ما يقرب من 5 مليارات يورو فى العام الواحد، وأن تكلفة الــ9 ملايين تبلغ نحو 45 مليار يورو، فيُصبح بذلك الخدمات المقدمة للاجئين فى مصر، طبقًا لتصريحات فرنسا، تُقارب العشرة مليارات يورو، أى ربع التكلفة الفعلية للاجئين فى فرنسا، وهو مبلغ كبير ويشكّل ضغطًا هائلًا على الموارد المصرية فى ظل الظروف الاقتصادية العالمية، لأن فرنسا تصرخ من تحملها نصف مليار يورو فى عام، فماذا عن مصر التى تتحمل ما يقرب من 10 مليارات يورو كل عام للاجئين والمهاجرين، ولم ننطق نحن ببنت شفة أو نلوِّح بها.

لا يخفى على أحدٍ المساومات والمقايضات وورقة الضغط بهم على أوروبا وحلفائها التى تمت فى عديد من البلدان المستضيفة لجزءٍ منهم على أراضيها، والتى اعتبرتهم صراحةً لاجئين وأقامت لهم الخيام على الحدود وبالعراء، رغم أنهم يتلقون من المنظمات الدولية والإغاثية والحقوقية أموالًا جرَّاء فتح الحدود لهم، وحصلوا نظير ذلك على مكاسب ومكتسبات وكأنهم سلعة تجارية، وموارد إضافية استثمارية للدخل القومى لبلادهم، والحصول على المعونات، وهو ما لم تفعله مصر ولن تفعله أو تطلبه حتى الآن، ويؤكد هذا الواقع تأكيد وزير خارجيتنا سامح شكرى، فى تصريحاته الأخيرة خلال الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بجامعة الدول العربية، بأنه لا بد من توفير البيئة المناسبة لعودة اللاجئين السوريين لبلادهم، وأنه على الحكومة السورية الالتزام بمخرجات اجتماع عمان، وتطلع مصر إلى المزيد من النقاش بين الدول حول هذا الشأن ومسارات تفعيل آليات العمل العربى المشترك من أجل رفع المعاناة عن السوريين وطى صفحة الخلافات، مبينًا أن معاناة السوريين مستمرة عامًا تلو الآخر نتيجة التعثُّر فى تسوية سياسية للأزمة وبسبب التدخلات الخارجية، وانصراف انتباه المجتمع الدولى تجاه قضايا أخرى، وهو ما لم تسكت عنه الجامعة.. ويكشفه أيضًا صمتنا العميق طوال أزمات ببلدان تخطت الخمسة عشر عامًا أو يزيد.

إذا كنا نبحث عن منافع، لكان الأجدر لنا أن نطالب المجتمع الدولى بتحمُّل مسئولياته تجاه اللاجئين، ومنحنا المقابل كما فعل غيرنا من قبل، ونحن نتحمل العبء الأكبر فى أعدادهم، والأضخم فى نفقاتهم، والأصعب فى الظروف واللحظات العصيبة التى تمر بها بلاد العالم أجمع بلا شك، وبالطبع مصر داخلها، ولكننا فضَّلنا أن نبقى كبارًا كما هى مصر على مر تاريخها، ونبحث مع الكافة طرق تسوية الأزمات المفتعلة ببلادهم، وعودتهم إلى ديارهم مرةً أخرى، وكانت سوريا فى المقدمة لأن أمد الأزمة تأخر كثيرًا دون حل، وأطرافها لا يهمهم مصلحة سوريا ولا شعبها، فعليهم الانصياع إلى صوت العقل، حتى لا يشكلون عبئًا إضافيًا على بلد كبير سكانيًا بحجم مصر.

العودة إلى الديار مطلبٌ عادل، ويتفق مع الأديان والقوانين ومواثيق الشرعية الدولية وحقوق الإنسان، والقاهرة وإن كانت لا تتدخل فى الشأن الداخلى لأية دولة، فمن باب أولى ألا تتحمل وزرًا لم ترتكبه من اقتصادها ومواردها، وأن تكون بوابة الإيواء لمن لم تطردهم من ديارهم أو تتسبب فيه، كما أن أوروبا ذاتها صرخت من الأعداد الضئيلة فيها وبالغت فى الشكوى ممن نزح لشواطئها، فأغلقت الحدود ومات من مات غرقًا وأُلقى من أُلقى بالسجون أو بخيمة فى العراء لا يجد الغوث، فعليها أن تنظر للأمر بجدية ومدى خطورته على البلدان الأخرى، ولتعلم أن ما قدمته أم الدنيا لهم لم ولن يقوى على تقديمه غيرها.

ستظل مصر أم الدنيا لقاصديها وإنما زوارًا وضيوفًا لا "لاجئين"، وليضرب الجميع المثل ويحتذى حذوها فى التعامل مع هذا الملف الأخطر والأهم، بالحُسنى ودون متاجرة أو مزايدة، وإن كانت تحركات القاهرة فى هذا الاتجاه إلا سعيًا للتهدئة، وعملًا بالنزول إلى المائدى للجلوس وطرح الحلول، وعدم السكوت عن الحقيقة المؤلمة، وهى أن لكل مواطن الحق فى العودة إلى وطنه، وعلى المُتصارعين النظر لمصلحة شعوبهم ومواطنيهم، وتغليب المصلحة العليا على المصالح الضيقة الخاصة، ورفع العبء المُلقى ظُلمًا عن بلادنا باعتباره حلًا دائمًا والارتكان له دون وضع جدول زمنى لجمع حلول.. حفظ الله مصر وشعبها من كل مكروه وسوء.